رقم الزائر
.:: أنت الزائر رقم ::.بحـث
ساعه المنتدى
المواضيع الأخيرة
احصائيات
هذا المنتدى يتوفر على 1750 عُضو.آخر عُضو مُسجل هو Shimaa mohamed فمرحباً به.
أعضاؤنا قدموا 33047 مساهمة في هذا المنتدى في 8852 موضوع
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
المدير العام | ||||
ريهام | ||||
عين الحياه | ||||
لؤلؤة المنتدى | ||||
سحر الشرق | ||||
abdullah99 | ||||
امانى | ||||
رحيق الايمان | ||||
احمد عبدالباسط | ||||
joka.jaky |
دخول
مجموعة منتديات مصر الحره
مجموعه منتديات مصر الحره |
زيارة هذه المجموعة |
اشتراك في مجموعه منتديات مصر الحره |
تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية
قم بحفض و مشاطرة الرابط منتديات مصر على موقع حفض الصفحات
قم بحفض و مشاطرة الرابط منتديات مصر الحره على موقع حفض الصفحات
سلسلة { اعترافات فتاة } (6)
صفحة 1 من اصل 1
سلسلة { اعترافات فتاة } (6)
- 18 -
[size=25]يكفي أنها أمي!
في صباح أشعر اليوم بتأنيب الضمير.. فها أنا أسير عائدة من المدرسة وورقة الدعوة لمجلس الأمهات ممزقة في يدي.. لا داعي لأن أريها أمي.. فهي أصلاً لا تقرأ.. ولا داعي لحضورها حتى.. قطعتها إرباً أصغر ورميتها في الشارع والألم يغتالني..
منذ أن دخلت المرحلة المتوسطة وأنا أحاول بكل استطاعتي أن لا ترى إحدى من صديقاتي أو معلماتي أمي.. لكني اليوم أشعر بتأنيب ضمير بشكل أشد.. فقد فزت بمركز الطالبة المثالية على مستوى المدرسة.. وهذه أول مرة يتم تكريمي فيها في حفل الأمهات.. لكن أمي لن تحضر.. أو بالأحرى.. لا أريدها أن تحضر..
حين دخلت البيت كان التوتر والحزن بادياً عليّ..
سألتني أمي بعطف..
- ما بك يا بنيتي..؟ هل أزعجك شيء؟
شعرت برغبة في البكاء لكني تماسكت..
- لا شيء يا أمي.. فقط متعبة قليلاً من الدراسة..
- الحمد لله.. إذاً ارتاحي في غرفتك وأنا سأحضر لك الغداء هناك..
- شكراً يا أمي لا أريد.. نفسي "مسدودة"!
أسرعت لغرفتي غيرت ملابسي وتوضأت وصليت.. ثم استلقيت على سريري.. يا الله.. ما أجمل الراحة! الحمد لله..
نظرت لغرفتي.. إنها مرتبة.. كل شيء نظيف..
مسكينة أمي.. حبيبتي.. إنها تتعب كثيراً من أجلي.. فرغم كبر سنها وعدم وجود خادمة تعينها إلا أنها تحاول قدر الإمكان ألا تتعبني معها في عمل البيت رغم إصرار أخواتي المتزوجات عليها بأن ترغمني على العمل..
أخذت أفكر في حالي.. كم أنا مغرورة ومتعجرفة.. إنها تفعل كل ذلك من أجلي.. وأنا.. أنا.. أستحي منها وأخجل من أن تراها معلماتي وصديقاتي.. يا ربي.. أشعر بصراع داخلي رهيب.. صوت يقول.. حرام! مسكينة أمك.. لماذا تتنكرين لها هكذا وهي الأم الحنون التي تحبك؟.. وصوت يقول لي.. كلا!! أنت على حق.. لا يمكن أن تراها صديقاتك!! أمك إنسانة متخلفة!.. مسكينة تثير الشفقة والسخرية في نفس الوقت.. انظري لطريقة لباسها وكلامها.. ومفرق شعرها اللامع وكحل الإثمد الذي تضعه حول عينيها.. كيف سترينها صديقاتك اللاتي معظمهن أمهاتهن على قدر من العلم والثقافة والأناقة والمركز الاجتماعي؟!.. بالتأكيد سيسخرن منها.. وأنت لا تريدين ذلك؟!
في إحدى المرات حين كنت في الصف السادس.. أذكر أنها حين أتت للمدرسة سألت إحدى المراقبات الإداريات المسؤولات عن الحضور والغياب عني!.. واعتقدت أنها معلمة فأخذت توصيها بي وتسألها أن ترحمني لأني أدرس طوال الوقت في البيت!! وكدت أموت من شدة الحرج يومها حين رأيت الإدارية تمسك زمام ضحكتها على أمي المسكينة..
وحين توجهت للتسجيل في المرحلة المتوسطة.. أخذت تسأل المديرة عما إذا كان من الواجب أن نلتزم بلبس "الياقة" البيضاء حول الرقبة – مثل المرحلة الابتدائية.. وهنا كدت أموت أيضاً من شدة الحرج..
آآه.. يا أمي.. ليتك تعلمين كم أحبك وأحرج في نفس الوقت من تصرفاتك.. لأني أتمنى أن تكوني دائماً أفضل الأمهات ولا أريد لأحد أن يسخر منك..
أحياناً حين أنظر لأمي.. أشعر أنها مسكينة.. فهي لم تشعر بالحب مرة واحدة في حياتها.. فقد ولدت في بيئة قاسية.. ثم ترعرعت يتيمة وحيدة..
وتزوجت وهي طفلة لرجل مسن حاد الطباع هو أبي.. أنجبت منه أحد عشر ابناً وابنة ورثوا عن أبيهم حدة طباعه وعصبيته – أنا أصغرهم.. وأنهك المرض والخرف جسم زوجها- أبي فلم يعد يعي شيئاً منذ دخلت أبواب المدرسة وفتحت نوافذ الحياة.. وها هي تعتني به حتى الآن رغم كبر سنها..
فمن أين يمكن أن تكون ذاقت طعم الحب؟
مسكينة..
ذات يوم قلت لها وهي جالسة على أرض المطبخ تقوم بتنقية التمر وغسله استعداداً لكنزه..
- يمه..
- هلا..
شعرت أني سأسألها سؤالاً قاسياً لكنه كان يدور في ذهني منذ مدة طويلة..
- لقد عشت طفولة معذبة.. هل كان هناك من يحبك ويعطف عليك..؟
سكتت وأخذت تفكر كمن صدمت بالسؤال..
سقطت حبتين من التمر من يدها.. ثم مسحت رأسها بجانب ذراعها..
وقالت..
- إيه.. كانت هناك ابنة صغيرة من بنات عمي الذي رباني.. كانت تحبني وتعطف علي.. وحين يضربني عمي أو زوجته أو يحرماني من العشاء كانت تخفف من ألمي وبكائي وتعطيني بعض عشائها.. الله يرحمها.. كانت تحبني أكثر من أخوتها..
- سبحان الله توفت؟!
- نعم.. توفت.. أصيبت بحمى شديدة بعد موسم المطر.. ثلاث ليالٍ ثم توفت الله يشفع فيها.. كان عمرها تسع سنين وأنا عشر..
- وبعدين..؟
- ماذا؟
- من أصبح يحبك ويعطف عليك بعدها؟
- لا أحد..
- لا أحد؟!
وقفت تفكر بصمت وبوجوم.. ثم تداركت بسرعة..
- طبعاً الله يخلي لي "عيالي" وأبوهم إن شاء الله.. وحاولت أن تستمر في عملها منشغلة عن هذا الحديث..
في تلك الليلة.. أخذت أفكر.. أي معاناة عانتها أمي المسكينة في طفولتها.. وأي حرمان من الحب عاشته في حياتها.. ورغم كل ذلك الألم الذي تجرعته.. فإنها قادرة وبكل سخاء على منح الحب والعطف للآخرين مهما قسوا عليها.. كم هي حقاً إنسانة عظيمة تستحق التقدير.. وكم أنا غبية لأني لا أفتخر بأم مثلها..
وفي الصباح حاولت أن أخبرها أن حفل الأمهات بعد يومين.. لكني وجدت نفسي أتوقف.. وأفكر في مسألة الإحراج مرة أخرى.. وفي مفرق الشعر.. ورائحة الحناء.. والحديث البسيط.. فأحجم عن مفاتحتها بالأمر..
* * *
وفي المدرسة.. وكأن الله أرادني أن أشعر بعظمة أمي.. جاءتني صديقتي نورة في الفسحة وجلست بقربي مع الشلة دون أن تتحدث.. شعرت أنها تريد أن تقول شيئاً لا تستطيع قوله أمام البنات..
- نورة.. تقومين نتمشى؟
قفزت بسرعة وكأنها كانت تنتظر هذه الدعوة بفارغ الصبر.. وما أن بدأنا نبتعد عن البنات حتى بدأت تفضفض لي ما بصدرها المثقل..
- إنني متعبة.. متعبة جداً يا مريم.. أكاد أنهار من شدة الألم الذي في قلبي..
- ماذا هناك.. خيراً إن شاء الله..؟!
- أمي.. أمي.. إنها قاسية.. قاسية جداً علينا.. تخيلي يا مريم أننا لا نراها ولا نكلمها إلا نادراً ومع هذا فهي لا تواجهنا إلا بوجه متضايق غاضب دائماً..
- لا ترونها؟.. كيف؟
- أنت تعلمين أنها تعمل.. وهي تقضي بقية اليوم في النوم أو حضور المناسبات الاجتماعية أو الذهاب للنادي.. لذا فإننا لا نراها إلا قليلاً وتكون متعبة ومتوترة ولا تريد أن تستمع لنا..
تركت نورة تكمل مشكلتها وأنا منبهرة فقالت وهي تخنق عبراتها..
- بالأمس تناقشنا في موضوع بسيط.. فاحتد النقاش بسبب غضبها وتوترها.. هل تعرفين ماذا قالت لي؟.. قالت أنها لا تحبني ولا تطيقني.. بل تكرهني وتتمنى لو تراني أنا وأخوتي موتى أمامها لترتاح من همنا.. تخيلي!!
صمت وأنا لا أزال مستغربة تماماً ولا أعرف ماذا أقول فأكملت وصوتها يرتجف بنبرة البكاء..
- مريم!.. تخيلي.. تقول أنها تريد أن تراني ميتة أمامها.. لقد بكيت بالأمس.. بكيت ودعوت الله من كل قلبي أن أموت لأريحها بالفعل مني.. وأتخلص من معاملتها القاسية..
- لا حول ولا قوة إلا بالله.. استعيذي بالله من الشيطان الرجيم يا نورة.. بالتأكيد هي لا تقصد ذلك..
وأخذت أهدئها وأنا أرى خيال أمي الحبيبة البسيطة الحنونة.. وأقارنها بوالدة نورة.. الدكتورة في الكلية.. المثقفة.. الأنيقة.. ولكن الغير قادرة على منح أبسط وأغلى شيء.. وهو الحب..
وفي يوم مجلس الأمهات.. قبضت على يد أمي في ساحة المدرسة وأخذت أعرفها على صديقاتي ومعلماتي بكل فخر.. كنت أعلم أنها امرأة بسيطة وغير متمدنة وقد تقول عبارات مضحكة.. لكنها في نظري أعظم وأسمى وأشرف أم.. يكفي أنها أمي.. وكفى..
**
مجلة حياة العدد (50) جمادى الثانية 1425هـ
- 19 -
وأسمتها نعمة..
كانت عيناها تلمعان ببراءة وهي في فستانها الأبيض..
نظرت إلي.. فابتسمت وأنا أبكي..
حبيبتي.. أختي الصغيرة..
ها هي تترك منزل اليتم.. إلى عالم آخر..
تلفت في الحفل.. نظرت إلى الوجوه.. كنت أتمنى أن تحصل معجزة وأرى بين الوجوه وجه أمي التي لا أعرف عنوانها ولا بلدها.. أمي التي لم أرها منذ ثمانية عشر عاماً..
لكني لم أر شيئاً..
لا زلت أرى عينيها الغارقتين في الدموع.. وأشتم رائحة عنقها الدافئ..
- حبيبتي مها.. عمري.. مهّاوي..
حضنتني بقوة وأنا أستغرب هذا التصرف.. كانت ترتدي عباءتها.. وتسحب حقيبة سفرها.. وأنا أريد التنصل من يديها لأكمل اللعب مع ابنة جيراننا..
وقفت خلود تبكي.. وتعلقت بعباءة أمي قبل أن يدفعها والدي لتخرج بصعوبة من البيت.. بينما كانت رحاب الصغيرة نائمة..
حين اقتربت الشمس من المغيب عدت لأبحث عن أمي.. فلم أجدها.. وبقيت أصيح أمام غرفتها حتى نمت على الأرض..
وبعد فترة علمت أن أمي لن تعود.. أبداً..
* * *
عشنا في البداية حياة مليئة باليتم والوحدة ونحن ثلاثة أطفال أكبرنا لم تجاوز التاسعة وأصغرنا أكملت للتو عامها الثاني..
لا زلت أذكر معاناتي أنا وخلود في تنظيف رحاب وتغيير ملابسها والتعامل مع صياحها طوال الليل باحثة عن أمي.. وكان أبي يتعمد تجاهلنا حتى لا يشعر بتأنيب الضمير.. فكان يخرج من البيت كثيراً.. ولا نراه إلا قليلاً..
وحين بدأت المدارس.. كان علينا أن نعاني من هموم أخرى.. فعلينا الاستيقاظ باكراً.. لنأخذ رحاب لجارتنا أم خالد.. كانت خلود المسكينة هي أمنا.. فكانت توقظني.. وتغير ملابس رحاب ثم تأخذها وهي تصيح لبيت الجارة.. ثم نذهب لمدرستنا سيراً على الأقدام.. وكان ذلك عامي الأول في المدرسة..
* * *
لا أنسى.. يوم.. أن صرخت أبلة حصة على خلود في الطابور.. وأنبتها أمام الطالبات لأن مريولها غير مرتب..
شعرت يومها أن أبلة حصة تنتقص من أمي.. نعم.. فخلود كانت أمي..
المسكينة وقفت ولم تتكلم.. ولم يكن هناك مجال لأن تشرح شيئاً..
عيناها كانتا حمراوين يومها..
* * *
تزوج أبي.. وأحضر امرأة سليطة اللسان إلى بيتنا..
في البداية.. تقززت من البيت الذي كانت رائحته سيئة كما تقول.. وبدأت تلقي أوامرها.. ورضخنا لها..
كنا نراها تخرج وتذهب وتعود.. ونحن جالسون لوحدنا في البيت.. لا نتحرك..
ذات يوم سألتني رحوبة.. "ما هي حديقة الحيوان؟"
بدأت دموعي تنساب وأنا صامتة.. لم أستطع أن أشرح لها..
وسكتت خلود أيضاً..
* * *
مع زواج أبي.. بدأ يغضب علينا كثيراً.. ويصرخ.. ثم.. أخذ يضرب..
ذات مرة ضرب خلود بعصا المكنسة.. ومرة أخرى رماني بقدر وجده في المطبخ لأني حرقت الطعام.. وفي مرات كثيرة دعا علينا بالموت..
كنت فقط أشفق على رحاب المسكينة.. لم أكن أود أن ترى والدي في هذه الحالات فتصاب بالرعب..
* * *
كبرنا وكبرت همومنا..
كنا نرى إخوتنا من أبي يكبرون.. وهم يعيشون طفولة أخرى.. لكننا لا نجرؤ على الكلام..
خُطبت خلود..
وبكت كثيراً.. قالت أنها لا تريد ترك رحاب.. لكني أقنعتها أن رحاب لم تعد طفلة.. عمرها الآن عشر سنوات..
وتزوجت خلود.. دون حفل ولا فستان أبيض..
دعوت الله لها كثيراً.. وبكيت..
وتذكرت رائحة أمي..
* * *
أنجبت خلود..
لكنها بقيت في بيتها.. كانت تعلم أن زوجة والدي لا تريدها هنا..
فذهبت إليها..
كانت متعبة كثيراً.. ولم أعرف كيف أتصرف معها في البداية..
لكنها أصبحت أفضل فيما بعد..
طفلتها كانت لها عينان لامعتان جميلتان..
لم يرها والدي إلا بعد أن أكملت أسبوعاً..
- سأسميها نعمة..
نظر إليها والدي بغضب.. نظراته مرعبة..
- كلا! والله لا تسمينها هذا الاسم!
ابتلعت خلود غصتها.. وسكتت.. شعرت بطعنة في صدري.. وما يضرك يا أبي؟.. هل تحرمنا حتى من اسم أمي؟
حين خرج والدي قالت خلود..
- والله لولا أني أخشى عليكما من سطوته.. لأسميتها بهذا الاسم مهما فعل..
كانت رحاب صامتة.. فهي لا تعرف أمي.. ولا رائحتها.. ولا اسمها..
* * *
بعد فترة خطبت أنا أيضاً.. وتزوجت..
كان زواجاً سريعاً.. والرجل.. لا بأس به.. أفضل من والدي على أية حال..
ليت لي أماً أشكو لها.. ليت لي أماً أستشيرها..
بعد عام أنجبت طفلاً..
وتغير زوجي.. بدأ يصبح أفضل..
لكن.. كان هناك ألم كبير في حياتي.. ألم لم أستطع اقتلاع جذوره..
كان يخيم على حياتي بشكل رهيب..
كلما رأيت طفلي يلعب وأنا أجري خلفه أحميه وأداعبه.. أتذكر طفولتي.. وأتذكر أختي الصغيرة.. فتنساب الدموع من عيني.. كلما رأيت طفلي يتعلق بعباءتي حين أخرج.. أتذكر أمي في وداعها الأخير فأعود إليه..
وأنجبت طفلاً ثانياً وثالثاً..
وشعور اليتم يقتلني..
* * *
وهي تجلس بكامل زينتها على المنصة.. كنت أرى في عيني رحاب الطفولة المعذبة.. ومن بين أصوات الدفوف.. كنت أسمع بوضوح صوت بكائها ونحن نحملها صباحاً لبيت أم خالد.. وكنت أسمع صياحها وخلود تدور بها حائرة في ممرات المنزل فجراً.. كنت أسمع صوتها تنادي.. ماما.. ماما.. ونحن نبكي معها..
قرصتني خلود وهي تتهادى ببطنها الكبير..
- كفى بكاء!.. لا تحزنيها ليلة زفافها..
ابتلعت الغصة وسكت..
وبعد أسبوع.. أنجبت خلود..
أنجبت طفلة سمراء جميلة..
وهذه المرة فقط.. أسمتها.. نعمة..
**
مجلة حياة العدد (51) رجب 1425هـ
- 20 -
صراع الذكريات
علا الصراخ بشكل غير طبيعي هذه المرة..
سقطت السيارة الصغيرة من يد عبودي وأخذ ينظر إلي بخوف.. يا للمسكين..
أسرعت أغلق باب غرفتي واحتضنت عبودي..
- "خلاص" حبيبي.. لا تخف.. لم يحصل شيء..
- أريد ماما.. أريد ماما..
- ماما مشغولة الآن..
أخذت أمسح شعره بحنان وأنا أكثر حاجة منه لمن يحتويني في هذه اللحظة..
فتحت هيفاء الباب بهدوء ونظرات الخوف تكسو وجهها..
كنت أعرف ماذا تريد أن تقول.. وهي كذلك تعرف ما في قلبي.. كان هناك فقط كم من المشاعر على وجوهنا تتكلم..
دخلت وأغلقت الباب وجلست على سريرها شاحبة.. بينما أصوات الصراخ تعلو..
سكت قليلاً..
- ماذا حصل؟
سألتُها..
- لا أعرف.. ربما لأنها نسيت صنبور الحديقة مفتوحاً!
ساد الصمت مرة أخرى..
- إنه غاضب منذ البارحة.. عمتي منيرة "زعلانة" لأن أمي لم تزرها في المستشفى منذ أول يوم.. وقد صبت غضبها على أبي..
- يا الله!!.. لماذا هم هكذا؟.. مسكينة أمي!.. لقد كان عليها حضور زواج ابن أختها.. كيف تذهب لعمتي؟ ثم إن عملية عمتي هي جيوب أنفية.. لم كل تلك الضجة؟!
- اسأليه!
فجأة رفع عبودي رأسه..
- أبيل.. نلوح سوبلمالكت اليوم؟
أطلقت ضحكة أسالت دموعي الساخنة..
- أي سوبرماركت يا حبيبي..!
وتنهدتُ بحرقة..
- سنقضي أسبوعاً من الألم والنكد والعزلة بسبب مثل هذا الشجار..
استلقت هيفاء على السرير وأعطتني ظهرها.. أحسست أنها تبكي.. ابتلعت غصتي وسكت بينما أصوات الصراخ تعلو.. تقترب وتبتعد أحياناً..
وفجأة سمعت صوت ارتطام شيء..
- وأنت يا ثور..!!
عرفت أنه أحمد.. لا بدَّ وأنه قد مرَّ في منطقة الخطر.. ليحصل على نصيبه من الحلوى..
وبعد قليل فتح الباب بهدوء ودخل..
نظراته الكسيرة توحي بالحيرة والضياع والألم..
جلس على السرير قرب هيفاء.. حك رأسه.. وتناول مجلة أطفال قديمة يتصفحها.. يحاول أن يبدو مشغولاً وغير مهتم..
شعرت بتعاطف كبير معه.. كنت أعلم يقيناً أنه تعرض لضربة موجعة.. لكني لم أشأ أن أكسر شيئاً من كبريائه وهو في سنوات مراهقته الأولى..
بعد قليل تكلم..
- أبي غاضب..!
سكت.. فلا تعليق لدي.. لكني كنت أعرف أنه يريد مدخلاً للحديث..
- كسر لعبة الكمبيوتر الجديدة!
يا الله!!!.. لا يمكن.. مسكين!.. لقد بقي أحمد عاماً كاملاً يجمع من مصروفه وعيدياته ليشتريها.. لا يمكن..!
مسح كتفه ثم ابتسم..
- وضربني بسلكها أيضاً!!
كان يحاول أن يبدي عدم الاهتمام.. لكني كنت قد وصلت إلى حافة الانهيار وأكاد بالفعل أن أبكي.. وتماسكت بصعوبة حتى لا أزيد جراحه..
هدأ الصراخ.. فشعرت بخوف أكثر.. لأن هذا هو الوقت الذي يطل فيه أبي علينا ليلقي تهديده ووعيده..
أخذت أمسح باستمرار على رأس عبودي الذي نام في حضني وغاب – لحسن حظه- عن المشهد..
جو خانق في الغرفة.. لكنه يبدو في الخارج خانقاً ومخيفاً أكثر.. بقينا صامتين.. هيفاء شبه نائمة.. وأحمد يقلب صفحات المجلة القديمة ويحاول أن يبدي اهتمامه بها.. وأنا أصارع دموعي ونشيجي كي لا يظهر..
فُتح الباب بقوة كما توقعنا.. كان غاضباً بشكل رهيب..
وجهه محمر.. عيناه تطلقان الشرر..
صرخ بقوة.. وصرخ.. وصرخ.. وكال الشتائم لأمي أمامنا حتى يغيظنا.. وهدد وهدد..
وكان علينا أن نقف هادئين مطأطئين رؤوسنا باحترام وأن نرضيه ونبدي السعادة أيضاً أمامه..
وحين سكتنا صرخ..
- لماذا أنتم صامتون؟ تكلموا.. هيا.. قولوا شيئاً..
نظرنا لبعضنا في خوف فماذا عسانا نقول؟.. إن أي خطأ أو هفوة بسيطة في الكلام قد تكلفنا صفعة على الوجه..
تطوعت للرد وأنا أرتجف..
- خيراً إن شاء الله يا أبي..
صرخ كمن ينتظر سبباً لإكمال صراخه..
- وأي خير يرتجى منكم ومن أمكم.. أي خير؟
هاه؟.. قولوا.. أيها الـ.. الـ..
واستمر في الإهانات الجارحة التي كانت أقوى من أي صفعة..
في تلك اللحظة.. استيقظ عبودي من النوم.. وبدأ يبكي ويصيح من الخوف.. فازداد غضب أبي.. وصرخ قليلاً ثم أغلق الباب بكل قوته وخرج يكاد يحرق من يمر أمامه..
عندها حضنت عبودي بقوة.. حضنته ووضعت رأسي على رأسه وأخذت أصيح.. وأنشج بقوة.. لم أعد أحتمل..
لأني أحسست بأشياء كثيرة تتحطم في داخلي.. كرامتي.. مشاعري.. روحي.. وحتى حبي لنفسي..
كرهت نفسي لأنها وصلت لهذه المرحلة من الحضيض وتقبل الإهانات.. وبكيت حتى بللت شعر الصغير..
× × ×
بعد سنوات.. بدأت آثار ذلك الألم الذي كنا نعيشه تظهر علينا جميعاً.. كلٌ حسب الطريقة التي اختارها..
هيفاء.. استسلمت لتلك الذكريات.. فهي ترفض الزواج تماماً.. ومتعلقة بأمي بشدة ولا تريد مفارقتها.. علاقتها بأبي رسمية جداً..
أحمد الهادئ.. اختار الهروب من تلك الذكريات.. فترك المنزل.. وأصر على التسجيل في جامعة في مدينة أخرى.. كنت أعلم يقيناً أنه يريد الابتعاد عن والدي وعن المنزل الذي عاش فيه الكثير من الليالي المرعبة..
وعبودي.. الذي كنت أحاول – عبثاً- أن أبعده عن أي مؤثر خارجي كان أقلنا تأثراً.. ربما لأن أبي تغير طبعه بعض الشيء مع كبر سنه.. لكنه لا يزال يعاني من مشاكل دراسية وسرحان.. ولا يزال يبدو يقرض أظافره حتى الآن..
أما عبير.. أنا..
فقد اخترت الطريق الأصعب..
اخترت أن آخذ الأمر كله كتحدٍ.. وصراع.. وأعيش كمقاتل عنيد مع ذكرياتي الأليمة.. حتى أهزمها..
اخترت أن أثبت نفسي وأشق طريقي في الحياة لأعوض شخصيتي المهانة في الطفولة..
درست الطب وتخرجت وتزوجت.. وأنجبت.. وعملت كطبيبة أطفال..
أصبحت أشارك في الكثير من المؤتمرات الدولية.. وألقي المحاضرات بكل ثقة وقوة..
حياتي الأسرية سعيدة جداً ولله الحمد.. فزوجي إنسان هادئ يقدرني ويحترمني.. وأطفالي سعداء ومرتاحون وينعمون بالحب والأمان.. وحين أرى الفرحة في أعينهم أنسى كل آلامي..
أما والدي.. فقد جاهدت كثيراً لكي أتناسى ما فعله بحقنا..
ودعوت الله أن يغفر لنا وله.. قاتلت وحاربت نفسي طويلاً لكي أسامحه وأصفح عنه بصدق.. وبعد سنوات طويلة.. استطعت ذلك بصعوبة.. وعندها فقط شعرت بالراحة والرضا والسلام.. ولم تعد الذكريات تخيفني..
أعلم أنه أمرٍ مغرٍ جداً.. أن تهرب من الذكريات القاسية.. أو تستسلم لها بكل خنوع..
لكني لم أهرب منها.. ولم أستسلم لها أيضاً.. أنا تركتها في مكانها في الذاكرة..
لكني تحديتها.. وواجهتها.. وتغلبت عليها ولله الحمد..
**
مجلة حياة العدد (52) شعبان 1425هـ
[/size]
نظرت إلي.. فابتسمت وأنا أبكي..
حبيبتي.. أختي الصغيرة..
ها هي تترك منزل اليتم.. إلى عالم آخر..
تلفت في الحفل.. نظرت إلى الوجوه.. كنت أتمنى أن تحصل معجزة وأرى بين الوجوه وجه أمي التي لا أعرف عنوانها ولا بلدها.. أمي التي لم أرها منذ ثمانية عشر عاماً..
لكني لم أر شيئاً..
لا زلت أرى عينيها الغارقتين في الدموع.. وأشتم رائحة عنقها الدافئ..
- حبيبتي مها.. عمري.. مهّاوي..
حضنتني بقوة وأنا أستغرب هذا التصرف.. كانت ترتدي عباءتها.. وتسحب حقيبة سفرها.. وأنا أريد التنصل من يديها لأكمل اللعب مع ابنة جيراننا..
وقفت خلود تبكي.. وتعلقت بعباءة أمي قبل أن يدفعها والدي لتخرج بصعوبة من البيت.. بينما كانت رحاب الصغيرة نائمة..
حين اقتربت الشمس من المغيب عدت لأبحث عن أمي.. فلم أجدها.. وبقيت أصيح أمام غرفتها حتى نمت على الأرض..
وبعد فترة علمت أن أمي لن تعود.. أبداً..
* * *
عشنا في البداية حياة مليئة باليتم والوحدة ونحن ثلاثة أطفال أكبرنا لم تجاوز التاسعة وأصغرنا أكملت للتو عامها الثاني..
لا زلت أذكر معاناتي أنا وخلود في تنظيف رحاب وتغيير ملابسها والتعامل مع صياحها طوال الليل باحثة عن أمي.. وكان أبي يتعمد تجاهلنا حتى لا يشعر بتأنيب الضمير.. فكان يخرج من البيت كثيراً.. ولا نراه إلا قليلاً..
وحين بدأت المدارس.. كان علينا أن نعاني من هموم أخرى.. فعلينا الاستيقاظ باكراً.. لنأخذ رحاب لجارتنا أم خالد.. كانت خلود المسكينة هي أمنا.. فكانت توقظني.. وتغير ملابس رحاب ثم تأخذها وهي تصيح لبيت الجارة.. ثم نذهب لمدرستنا سيراً على الأقدام.. وكان ذلك عامي الأول في المدرسة..
* * *
لا أنسى.. يوم.. أن صرخت أبلة حصة على خلود في الطابور.. وأنبتها أمام الطالبات لأن مريولها غير مرتب..
شعرت يومها أن أبلة حصة تنتقص من أمي.. نعم.. فخلود كانت أمي..
المسكينة وقفت ولم تتكلم.. ولم يكن هناك مجال لأن تشرح شيئاً..
عيناها كانتا حمراوين يومها..
* * *
تزوج أبي.. وأحضر امرأة سليطة اللسان إلى بيتنا..
في البداية.. تقززت من البيت الذي كانت رائحته سيئة كما تقول.. وبدأت تلقي أوامرها.. ورضخنا لها..
كنا نراها تخرج وتذهب وتعود.. ونحن جالسون لوحدنا في البيت.. لا نتحرك..
ذات يوم سألتني رحوبة.. "ما هي حديقة الحيوان؟"
بدأت دموعي تنساب وأنا صامتة.. لم أستطع أن أشرح لها..
وسكتت خلود أيضاً..
* * *
مع زواج أبي.. بدأ يغضب علينا كثيراً.. ويصرخ.. ثم.. أخذ يضرب..
ذات مرة ضرب خلود بعصا المكنسة.. ومرة أخرى رماني بقدر وجده في المطبخ لأني حرقت الطعام.. وفي مرات كثيرة دعا علينا بالموت..
كنت فقط أشفق على رحاب المسكينة.. لم أكن أود أن ترى والدي في هذه الحالات فتصاب بالرعب..
* * *
كبرنا وكبرت همومنا..
كنا نرى إخوتنا من أبي يكبرون.. وهم يعيشون طفولة أخرى.. لكننا لا نجرؤ على الكلام..
خُطبت خلود..
وبكت كثيراً.. قالت أنها لا تريد ترك رحاب.. لكني أقنعتها أن رحاب لم تعد طفلة.. عمرها الآن عشر سنوات..
وتزوجت خلود.. دون حفل ولا فستان أبيض..
دعوت الله لها كثيراً.. وبكيت..
وتذكرت رائحة أمي..
* * *
أنجبت خلود..
لكنها بقيت في بيتها.. كانت تعلم أن زوجة والدي لا تريدها هنا..
فذهبت إليها..
كانت متعبة كثيراً.. ولم أعرف كيف أتصرف معها في البداية..
لكنها أصبحت أفضل فيما بعد..
طفلتها كانت لها عينان لامعتان جميلتان..
لم يرها والدي إلا بعد أن أكملت أسبوعاً..
- سأسميها نعمة..
نظر إليها والدي بغضب.. نظراته مرعبة..
- كلا! والله لا تسمينها هذا الاسم!
ابتلعت خلود غصتها.. وسكتت.. شعرت بطعنة في صدري.. وما يضرك يا أبي؟.. هل تحرمنا حتى من اسم أمي؟
حين خرج والدي قالت خلود..
- والله لولا أني أخشى عليكما من سطوته.. لأسميتها بهذا الاسم مهما فعل..
كانت رحاب صامتة.. فهي لا تعرف أمي.. ولا رائحتها.. ولا اسمها..
* * *
بعد فترة خطبت أنا أيضاً.. وتزوجت..
كان زواجاً سريعاً.. والرجل.. لا بأس به.. أفضل من والدي على أية حال..
ليت لي أماً أشكو لها.. ليت لي أماً أستشيرها..
بعد عام أنجبت طفلاً..
وتغير زوجي.. بدأ يصبح أفضل..
لكن.. كان هناك ألم كبير في حياتي.. ألم لم أستطع اقتلاع جذوره..
كان يخيم على حياتي بشكل رهيب..
كلما رأيت طفلي يلعب وأنا أجري خلفه أحميه وأداعبه.. أتذكر طفولتي.. وأتذكر أختي الصغيرة.. فتنساب الدموع من عيني.. كلما رأيت طفلي يتعلق بعباءتي حين أخرج.. أتذكر أمي في وداعها الأخير فأعود إليه..
وأنجبت طفلاً ثانياً وثالثاً..
وشعور اليتم يقتلني..
* * *
وهي تجلس بكامل زينتها على المنصة.. كنت أرى في عيني رحاب الطفولة المعذبة.. ومن بين أصوات الدفوف.. كنت أسمع بوضوح صوت بكائها ونحن نحملها صباحاً لبيت أم خالد.. وكنت أسمع صياحها وخلود تدور بها حائرة في ممرات المنزل فجراً.. كنت أسمع صوتها تنادي.. ماما.. ماما.. ونحن نبكي معها..
قرصتني خلود وهي تتهادى ببطنها الكبير..
- كفى بكاء!.. لا تحزنيها ليلة زفافها..
ابتلعت الغصة وسكت..
وبعد أسبوع.. أنجبت خلود..
أنجبت طفلة سمراء جميلة..
وهذه المرة فقط.. أسمتها.. نعمة..
**
مجلة حياة العدد (51) رجب 1425هـ
- 20 -
صراع الذكريات
علا الصراخ بشكل غير طبيعي هذه المرة..
سقطت السيارة الصغيرة من يد عبودي وأخذ ينظر إلي بخوف.. يا للمسكين..
أسرعت أغلق باب غرفتي واحتضنت عبودي..
- "خلاص" حبيبي.. لا تخف.. لم يحصل شيء..
- أريد ماما.. أريد ماما..
- ماما مشغولة الآن..
أخذت أمسح شعره بحنان وأنا أكثر حاجة منه لمن يحتويني في هذه اللحظة..
فتحت هيفاء الباب بهدوء ونظرات الخوف تكسو وجهها..
كنت أعرف ماذا تريد أن تقول.. وهي كذلك تعرف ما في قلبي.. كان هناك فقط كم من المشاعر على وجوهنا تتكلم..
دخلت وأغلقت الباب وجلست على سريرها شاحبة.. بينما أصوات الصراخ تعلو..
سكت قليلاً..
- ماذا حصل؟
سألتُها..
- لا أعرف.. ربما لأنها نسيت صنبور الحديقة مفتوحاً!
ساد الصمت مرة أخرى..
- إنه غاضب منذ البارحة.. عمتي منيرة "زعلانة" لأن أمي لم تزرها في المستشفى منذ أول يوم.. وقد صبت غضبها على أبي..
- يا الله!!.. لماذا هم هكذا؟.. مسكينة أمي!.. لقد كان عليها حضور زواج ابن أختها.. كيف تذهب لعمتي؟ ثم إن عملية عمتي هي جيوب أنفية.. لم كل تلك الضجة؟!
- اسأليه!
فجأة رفع عبودي رأسه..
- أبيل.. نلوح سوبلمالكت اليوم؟
أطلقت ضحكة أسالت دموعي الساخنة..
- أي سوبرماركت يا حبيبي..!
وتنهدتُ بحرقة..
- سنقضي أسبوعاً من الألم والنكد والعزلة بسبب مثل هذا الشجار..
استلقت هيفاء على السرير وأعطتني ظهرها.. أحسست أنها تبكي.. ابتلعت غصتي وسكت بينما أصوات الصراخ تعلو.. تقترب وتبتعد أحياناً..
وفجأة سمعت صوت ارتطام شيء..
- وأنت يا ثور..!!
عرفت أنه أحمد.. لا بدَّ وأنه قد مرَّ في منطقة الخطر.. ليحصل على نصيبه من الحلوى..
وبعد قليل فتح الباب بهدوء ودخل..
نظراته الكسيرة توحي بالحيرة والضياع والألم..
جلس على السرير قرب هيفاء.. حك رأسه.. وتناول مجلة أطفال قديمة يتصفحها.. يحاول أن يبدو مشغولاً وغير مهتم..
شعرت بتعاطف كبير معه.. كنت أعلم يقيناً أنه تعرض لضربة موجعة.. لكني لم أشأ أن أكسر شيئاً من كبريائه وهو في سنوات مراهقته الأولى..
بعد قليل تكلم..
- أبي غاضب..!
سكت.. فلا تعليق لدي.. لكني كنت أعرف أنه يريد مدخلاً للحديث..
- كسر لعبة الكمبيوتر الجديدة!
يا الله!!!.. لا يمكن.. مسكين!.. لقد بقي أحمد عاماً كاملاً يجمع من مصروفه وعيدياته ليشتريها.. لا يمكن..!
مسح كتفه ثم ابتسم..
- وضربني بسلكها أيضاً!!
كان يحاول أن يبدي عدم الاهتمام.. لكني كنت قد وصلت إلى حافة الانهيار وأكاد بالفعل أن أبكي.. وتماسكت بصعوبة حتى لا أزيد جراحه..
هدأ الصراخ.. فشعرت بخوف أكثر.. لأن هذا هو الوقت الذي يطل فيه أبي علينا ليلقي تهديده ووعيده..
أخذت أمسح باستمرار على رأس عبودي الذي نام في حضني وغاب – لحسن حظه- عن المشهد..
جو خانق في الغرفة.. لكنه يبدو في الخارج خانقاً ومخيفاً أكثر.. بقينا صامتين.. هيفاء شبه نائمة.. وأحمد يقلب صفحات المجلة القديمة ويحاول أن يبدي اهتمامه بها.. وأنا أصارع دموعي ونشيجي كي لا يظهر..
فُتح الباب بقوة كما توقعنا.. كان غاضباً بشكل رهيب..
وجهه محمر.. عيناه تطلقان الشرر..
صرخ بقوة.. وصرخ.. وصرخ.. وكال الشتائم لأمي أمامنا حتى يغيظنا.. وهدد وهدد..
وكان علينا أن نقف هادئين مطأطئين رؤوسنا باحترام وأن نرضيه ونبدي السعادة أيضاً أمامه..
وحين سكتنا صرخ..
- لماذا أنتم صامتون؟ تكلموا.. هيا.. قولوا شيئاً..
نظرنا لبعضنا في خوف فماذا عسانا نقول؟.. إن أي خطأ أو هفوة بسيطة في الكلام قد تكلفنا صفعة على الوجه..
تطوعت للرد وأنا أرتجف..
- خيراً إن شاء الله يا أبي..
صرخ كمن ينتظر سبباً لإكمال صراخه..
- وأي خير يرتجى منكم ومن أمكم.. أي خير؟
هاه؟.. قولوا.. أيها الـ.. الـ..
واستمر في الإهانات الجارحة التي كانت أقوى من أي صفعة..
في تلك اللحظة.. استيقظ عبودي من النوم.. وبدأ يبكي ويصيح من الخوف.. فازداد غضب أبي.. وصرخ قليلاً ثم أغلق الباب بكل قوته وخرج يكاد يحرق من يمر أمامه..
عندها حضنت عبودي بقوة.. حضنته ووضعت رأسي على رأسه وأخذت أصيح.. وأنشج بقوة.. لم أعد أحتمل..
لأني أحسست بأشياء كثيرة تتحطم في داخلي.. كرامتي.. مشاعري.. روحي.. وحتى حبي لنفسي..
كرهت نفسي لأنها وصلت لهذه المرحلة من الحضيض وتقبل الإهانات.. وبكيت حتى بللت شعر الصغير..
× × ×
بعد سنوات.. بدأت آثار ذلك الألم الذي كنا نعيشه تظهر علينا جميعاً.. كلٌ حسب الطريقة التي اختارها..
هيفاء.. استسلمت لتلك الذكريات.. فهي ترفض الزواج تماماً.. ومتعلقة بأمي بشدة ولا تريد مفارقتها.. علاقتها بأبي رسمية جداً..
أحمد الهادئ.. اختار الهروب من تلك الذكريات.. فترك المنزل.. وأصر على التسجيل في جامعة في مدينة أخرى.. كنت أعلم يقيناً أنه يريد الابتعاد عن والدي وعن المنزل الذي عاش فيه الكثير من الليالي المرعبة..
وعبودي.. الذي كنت أحاول – عبثاً- أن أبعده عن أي مؤثر خارجي كان أقلنا تأثراً.. ربما لأن أبي تغير طبعه بعض الشيء مع كبر سنه.. لكنه لا يزال يعاني من مشاكل دراسية وسرحان.. ولا يزال يبدو يقرض أظافره حتى الآن..
أما عبير.. أنا..
فقد اخترت الطريق الأصعب..
اخترت أن آخذ الأمر كله كتحدٍ.. وصراع.. وأعيش كمقاتل عنيد مع ذكرياتي الأليمة.. حتى أهزمها..
اخترت أن أثبت نفسي وأشق طريقي في الحياة لأعوض شخصيتي المهانة في الطفولة..
درست الطب وتخرجت وتزوجت.. وأنجبت.. وعملت كطبيبة أطفال..
أصبحت أشارك في الكثير من المؤتمرات الدولية.. وألقي المحاضرات بكل ثقة وقوة..
حياتي الأسرية سعيدة جداً ولله الحمد.. فزوجي إنسان هادئ يقدرني ويحترمني.. وأطفالي سعداء ومرتاحون وينعمون بالحب والأمان.. وحين أرى الفرحة في أعينهم أنسى كل آلامي..
أما والدي.. فقد جاهدت كثيراً لكي أتناسى ما فعله بحقنا..
ودعوت الله أن يغفر لنا وله.. قاتلت وحاربت نفسي طويلاً لكي أسامحه وأصفح عنه بصدق.. وبعد سنوات طويلة.. استطعت ذلك بصعوبة.. وعندها فقط شعرت بالراحة والرضا والسلام.. ولم تعد الذكريات تخيفني..
أعلم أنه أمرٍ مغرٍ جداً.. أن تهرب من الذكريات القاسية.. أو تستسلم لها بكل خنوع..
لكني لم أهرب منها.. ولم أستسلم لها أيضاً.. أنا تركتها في مكانها في الذاكرة..
لكني تحديتها.. وواجهتها.. وتغلبت عليها ولله الحمد..
**
مجلة حياة العدد (52) شعبان 1425هـ
[/size]
مواضيع مماثلة
» سلسلة { اعترافات فتاة } (10)
» سلسلة { اعترافات فتاة } (11)
» سلسلة { اعترافات فتاة } (12)
» سلسلة { اعترافات فتاة } (13)
» سلسلة { اعترافات فتاة } (14)
» سلسلة { اعترافات فتاة } (11)
» سلسلة { اعترافات فتاة } (12)
» سلسلة { اعترافات فتاة } (13)
» سلسلة { اعترافات فتاة } (14)
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء نوفمبر 12, 2024 2:54 pm من طرف ahmedsh167
» تبادل إعلاني مجاني - تبادل إعلانات نصية - تبادل بنرات إعلانية - تبادل الزيارات بين أصحاب المواقع - دليل مواقع
الجمعة نوفمبر 08, 2024 8:37 am من طرف alaa_eg
» amgroup markting | عروض وخصومات يومية للتسوق في مكان واحد
الثلاثاء أكتوبر 22, 2024 3:32 am من طرف lovesport
» بوكلين فولفو 210 موديل 2015 - حفار - Excavator - كود A376
الثلاثاء أغسطس 13, 2024 3:33 pm من طرف lovesport
» شركة صقر الشارقة للنقليات | saqralsharqa company transporters
الثلاثاء يوليو 23, 2024 9:37 pm من طرف lovesport
» مؤسسة صقر الشارقة للنقليات | transporters
الخميس فبراير 29, 2024 5:08 pm من طرف lovesport
» شركة تنظيف بالجبيل
الأحد فبراير 18, 2024 2:04 am من طرف شيماء أسامة 272
» شركة تنظيف بالجبيل
الثلاثاء أكتوبر 31, 2023 10:00 pm من طرف شيماء أسامة 272
» شركة تنظيف سجاد براس تنورة
الإثنين أكتوبر 09, 2023 5:00 pm من طرف شيماء أسامة 272
» تحميل القران الكريم بصوت القارئ عبد الباسط عبد الصمد mp3 كامل مجانا مضغوط
الإثنين سبتمبر 18, 2023 12:34 pm من طرف alaa_eg
» تحميل التعليق العربي pes 2013 حفيظ دراجي
الأحد سبتمبر 17, 2023 12:41 pm من طرف alaa_eg
» تحميل برنامج SFX Maker لصناعة البرامج تثبيت صامت بآخر إصدار
الثلاثاء سبتمبر 12, 2023 9:32 am من طرف alaa_eg
» تحميل برنامج تشغيل الفيديو QQ Player كيوكيو بلاير للكمبيوتر
الثلاثاء سبتمبر 12, 2023 9:27 am من طرف alaa_eg
» تحميل برنامج صانع شهادات التقدير للكمبيوتر مجاناً - Certificate Maker
الثلاثاء سبتمبر 12, 2023 9:09 am من طرف alaa_eg
» تحميل القران الكريم بصوت اسلام صبحي mp3 كامل مجانا
الأحد سبتمبر 10, 2023 5:32 am من طرف alaa_eg
» بوكلين فولفو 460 - حفار فولفو 2009 - VOLVO EC460B - Excavator - كود A 282
الإثنين أغسطس 14, 2023 4:11 pm من طرف lovesport
» تبادل إعلاني مجاني - تبادل بانرات ، تبادل اعلانات نصيه ، تبادل زيارات
الجمعة فبراير 24, 2023 6:34 pm من طرف alaa_eg
» منتديات عرب مسلم
الجمعة فبراير 24, 2023 6:32 pm من طرف alaa_eg
» منتديات مثقف دوت كوم
الجمعة فبراير 24, 2023 6:30 pm من طرف alaa_eg
» منتدى برامج نت
الجمعة فبراير 24, 2023 6:28 pm من طرف alaa_eg